فصل: تفسير الآيات (1- 8):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (64- 69):

{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)}
وقوله تعالى: {وَمَا هذه الحياة الدنيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ} وصفَ اللّهُ تعالى الدنيا في هذه الآيةِ بأنها لهوٌ ولعب، أي: ما كان منها لغير وجه اللّه تعالى؛ وأما مَا كان للَّه تعالى فهو من الآخرة، وأما أمورُ الدنيا التي هي زائدة على الضروري الذي به قِوَامُ العَيْشِ، والقوةُ على الطاعات؛ فإنما هي لهو ولعب، وتأملْ ذلك في الملابِس، والمطاعِم، والأقوال، والمكتسبات، وغير ذلك، وانظر أن حالةَ الغني والفقير من الأمور الضرورية واحدة: كالتنفسِ في الهواء، وسد الجوع، وستر العورة، وتَوَقِّي الحر والبرد؛ هذه عظم أمر العيش، و{الحيوان} و{الحياة} بمعنًى، والمعَنى: لا موت فيها، قاله مجاهد وهو حسن، ويقال: أصله: حييان؛ فأبدلت إحداهما واواً لاجتماع المِثْلَين. ثم وقَفَهُمْ تعالى على حالهم في البحر؛ عند الخوف العظيم؛ ونسيانهم عند ذلك للأصنام، وغيرها، على ما تقدم بيانُه في غير هذا الموضع: و{لِيَكْفُرُواْ} نصبٌ ب لام كي ثم عدَّد تعالى على كَفَرَةِ قريش نعمتَه عليهم؛ في الحَرَمِ والمثوى: موضع الإقامة، وألفاظ هذه الآية في غايةِ الاقْتِضَابِ والإيجاز؛ وجمع المعاني. ثم ذكر تعالى حالَ أوليائه والمجاهدين فيه.
وقوله: {فِينَا} معناه: في مرضاتنا وبغيةِ ثوابِنا.
قال السدي وغيره: نزلت هذه الآيةُ قبل فَرضِ القتال.
قال * ع *: فهي قَبْلَ الجهادِ العَرْفي وإنما هو جِهَاد عامُّ في دين اللّه وطلب مرضاته.
قال الحسن بن أبي الحسن: الآيةُ في العُبَّادِ. وقال إبراهيم بن أدهم: هي في الذين يعملون بما علموا. وقال أبو سليمان الدَّارانيُّ: ليس الجهادُ في هذه الآية قتالَ العدو فقط؛ بل هو نَصْرُ الدِّين والردُّ على المبطلينَ وقمعُ الظالمينَ؛ وأعظمُه الأمر بالمعروفِ، والنهيُ عن المنكرِ، ومنه، مجاهدةُ النفوسِ في طاعةِ اللّه عز وجل وهو الجهاد الأكبر؛ قاله الحسن وغيره، وفيه حديثٌ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم «رَجَعْتُمْ مِنَ الْجِهَادِ الأَصْغَرِ إلَى الْجِهَادِ الأَكْبَرِ» والسُّبل هنا يحتملُ أن تكونَ طُرَقَ الجنةِ ومَسَالِكَهَا، ويحتملُ أن تكونَ سبلَ الأعمال المؤَدِّيَةِ إلى الجنةِ، قال يوسف بن أسباط: هي إصلاح النيّة في الأعمال، وحب التَزَيُّدِ والتَفَهُّمِ، وهو أن يُجَازَى العبدُ عَلى حَسَنَةٍ بازدياد حسنةٍ وبعلمٍ يَنْقَدِحُ مِن عِلْمٍ متقدمٍ.
قال * ص *: {والذين جاهدوا}: مبتدأ خبرُه القسمُ المحذوفُ، وجوابُه وهو: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ}، انتهى.
وقال الثعلبي: قال سهل بن عبد اللّه: {والذين جاهدوا} في إقامة السنة {لَنَهْدِيَنَّهُمْ} سبل الجنة؛ انتهى. واللام في قوله {لَمَعَ} لام تأكيد.

.تفسير سورة الروم:

وهي مكية اتفاقا.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 8):

{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)}
قوله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الروم} قرأ الجمهور: غُلبت بضم الغين، وقالوا: معنى الآية: أنه بلغ أهلَ مكةَ أنّ الملكَ كِسْرَى هَز جَيْشَ الروم بأذْرِعَاتٍ؛ وهي أدنى الأرض إلى مكة؛ قاله عكرمة. فَسُرَّ بذلك كفارُ مكةَ فبشر اللّه تعالى المؤمنين بأن الرومَ سيَغْلِبونَ في بضْعِ سنين، فخرج أبو بكر رضي اللّه عنه إلى المسجد الحرام؛ فقال للكفار: أسركم أن غُلِبَتِ الرُّوم؟ فإن نبيَّنا أخبرنا عن اللّه تعالى: أنهم سَيغْلبون في بضع سنين، فقال له أُبَيُّ بن خلف وأخوه أمية بن خلف: يا أبا بكر: تعالَ فَلْنَتَنَاحَبْ، أي: نتراهنْ في ذلك، فراهنهم أبو بكر على خمس قلائص، والأجل ثلاث سنين، وذلك قبل أن يحرم القِمار فأخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك؛ فقال له: إن البضع إلى التسع، ولكن زِدْهم في الرهن؛ واستزدهم في الأجل، ففعل أبو بكرٍ، فجعلوا القلائصَ مائةً، والأجل تسعةَ أعوامٍ، فَغَلَبَتْ الرومُ فارسَ فِي أثْنَاءِ الأَجَلِ يوم بدر ورُوِيَ أن ذلك كان يوم الحُدَيْبِية، يوم بيعة الرضوان؛ وفي كلا اليومين كان نصرٌ من اللّه تعالى للمؤمنين، وذكر الناسُ سرورَ المؤمنين بغلبةِ الروم؛ من أجل أنهم أهل كتاب، وفرحت قريشٌ بغلبة الفرسِ؛ من أجل أنهم أهل أوثان. ونحوه من عبادة النار.
وقوله تعالى: {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ}. أي: له إنفاذ الأحكام من قبل ومن بعد هذه الغلبةِ التي بين هؤلاء؛ ثم أخبر تعالى أن يوم غلبة الروم للفرس يفرح المؤمنون بنصر اللّه، {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} يريدُ: كُفَّارَ قريش والعرب، أي: لا يعملون أن الأمور من عند اللّه، وأن وعده لا يُخْلَفُ، وأن ما يورده نبيُّه حق.
قال * ع *: وهذا الذي ذكرناه عُمْدَةُ ما قيل. ثم وصف تعالى الكفرةَ الذين لا يعلمون أمر اللّه وصِدْقَ وعدِه بأنهم إنما: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الأخرة هُمْ غافلون}، قال صاحب الكلم الفارقية: الدنيا طَبَقٌ مسموم، لا يعرف ضرره إلا أربابُ الفهوم. قوةُ الرغبة في الدنيا علامة ضعفها في الآخرة. بحسب انصرافُ الرغبةِ إلى الشيء، يجدُّ الراغبُ في طلبه، وتتوفَّرُ دواعيه على تحصيلهِ. المطلوبات تُظهر وتبيِّنُ أقدارَ طُلاَّبها؛ فمن شَرُفَتْ همَّتُهُ شَرُفَتْ رغبته؛ وعزت طلبته. يا غافل، سكر حبك لدنياك؛ وطول مُتابعتِكَ لَغاوِي هواك- أنساك عظمةَ مولاك؛ وَثَنَاكَ عن ذكره وألهاك؛ وَصَرَفَ وجه رغبتك عن آخرتك إلى دنياك. إنْ كنت من أَهل الاستِبْصَار، فألقِ ناظرَ رغبتك عن زخارف هذه الدار؛ فإنها مجمعُ الأكدار، ومنبَعُ المضار؛ وسِجْنُ الأَبرار؛ ومجلس سرور الأشرار. الدنيا كالحيةِ تجمع في أنيابها؛ سُمُومَ نَوَائِبِها؛ وتفرغه في صميمِ قلوب أبنائها، انتهى.
قال عياض في الشفا: قال أبو العباس المبرِّد رحمه اللّه قَسَّم كِسرى أيامَه؛ فقال: يَصْلُحُ يَوْمَ الريح للنوم، ويومُ الغَيْم للصيد، ويوم المطر للشُّرْب واللهو، ويوم الشمس للحوائج. قال ابن خَالَوَيْهِ: ما كان أعرفَهم بسياسة دنياهم، {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الأخرة هُمْ غافلون}، لكنْ نبينَا محمداً صلى الله عليه وسلم جزأها ثلاثةَ أجزاء: جزءاً للَّه تعالى، وجزءاً لأهله، وجزءاً لنفسه. ثم جزَّأ جزءه بينه وبين الناس؛ فكان يستعين بالخاصة على العامة؛ وَيَقُولُ: أَبْلِغُوا حَاجَةَ مَنْ لاَ يَسْتَطِيعُ إبْلاَغِي؛ فَإنَّهُ مَنْ أَبْلَغَ حَاجَةَ مَنْ لاَ يَسْتَطِيعُ، أَمَّنَهُ اللّهُ يَوْمَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ، انتهى. والمؤمن المنهمك في أمور الدنيا التي هي أكبر همه، يأخذ من هذه الآيةِ بخط. نوَّر اللّهُ قلوبَنا بهداه.
* ت *: قد تقدم ما جاء في الفكرة في آل عمران. قال ابن عطاء اللّه: الفكرة سراج القلب؛ فإذا ذهبت فلا إضاءة له. وقال: ما نفع القلبَ شيءٌ مثلُ عُزْلَةٍ يدخل بها ميدانَ فكرة، انتهى وباقي الآية بَيِّن.

.تفسير الآيات (9- 13):

{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13)}
وقوله عزَّ وجل: {أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرض...} الآية، يريدُ أثاروا الأرضَ بالمباني، والحرثِ، والحروبِ وسائرُ الحوادثِ التي أحدثوها هي كلُّها إثارةٌ للأرض؛ بعضها حقيقة وبعضها بتجوُّز، والضمير في {عَمَرُوهَا} الأول للماضين، وفي الثاني للحاضرين المعاصرين.
وقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عاقبة الذين أَسَاءُواْ السوأى أَن كَذَّبُواْ بئايات الله}.
قرأ نافع وغيره: {عَاقِبَةُ} بالرفع على أنها اسْمُ {كَانَ}، والخبر يجوز أن يكون {السوأى}، ويجوز أن يكونَ {أَن كَذَّبُواْ}، وتكونُ {السوأى} على هذا مفعولاً ب {أَساءُواْ} وإذا كان {السوأى} خبراً ف {أَن كَذَبُوا} مفعول من أجله.
وقرأ حمزة والكسائي وغيرهما {عَاقِبَةَ} بالنصب على أنها خبرٌ مقدَّم، واسم كان أحد ما تقدم، {والسوأى}: مصدر كالرُّجْعَى، والشُّورَى، والفُتْيا. قال ابن عباس: {أَسَاءُوا} هنا بمعنى: كفروا، و{السوأى} هي النار. وعبارة البخاري: وقال مجاهد {السوأى} أي: الإساءة جزاء المسيئين، انتهى. والإبْلاَسُ: الكون في شَرٍّ، مع اليأسِ من الخير.
* ص *: وقال الزجاج: المُبْلِسُ: الساكت المنقطع في حجته؛ اليائس من أن يَهْتَدِيَ إليها، انتهى.

.تفسير الآيات (14- 16):

{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)}
وقوله جلت عظمته: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} معناه: في المنازل والأحكام والجزاء. قال قتادة: فُرْقَةً؛ واللّه لا اجتماعَ بعدها. و{يُحْبَرُونَ} معناه يُنَعَّمُونَ؛ قاله مجاهد. والحبرة والحبُورُ: السرور وقال يحيى بن أبي كثير: {يُحْبَرُونَ} معناه: يسمعون الأغاني؛ وهذا نوع من الحبرة.
* ت *: وفي الصحيح من قول أبي موسى: لو شعرت بك يا رسول اللّه لحبَّرتْهُ لك تَحْبِيراً؛ أو كما قال.
وقال * ص *: {يُحْبَرُونَ}: قال الزجاج: التَحْبِيرُ: التحسين، والحبر العالم، إنما هو من هذا المعنى؛ لأنه مُتَخَلِّقٌ بأحسَن أخلاق المؤمنين، والحِبْرُ المِدَادُ إنما سمي به؛ لأنه يُحَسَّنُ به، انتهى. قال الأصمعيُّ: ولا يقال: روضة حتى يكونَ فيها ماء؛ يشربُ منه. ومعنى: {فِي العذاب مُحْضَرُونَ} أي: مجموعون له: لا يغيب أحد عنه.

.تفسير الآيات (17- 29):

{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)}
وقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ الله...} الآية خطابٌ للمؤمنين بالأمر بالعبادة والحضِّ على الصلاة في هذه الأوقات، كأنه يقول سبحانه: إذا كان أمر هذه الفرق هكذا من النقمة والعذاب، فجِدَّ أيها المؤمن في طريق الفوز برحمة اللّه. ورَوَى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ {فَسُبْحَانَ اللّه حين تمسون وحين تصبحون} إلى قوله: {وكذلك تخرجون} أَدْرَكَ مَا فَاتَهُ فِي يَوْمِه ذَلِكَ، وَمَنْ قَالَهُنَّ حِينَ يُمْسِي أَدْرَكَ مَا فَاتَهُ فِي لَيْلَتِهِ» رواه أبو داود، انتهى من السلاح.
قال ابن عباس وغيره: في هذه الآية تنبيهٌ علَى أربع صلواتٍ: المغرب، والصبح، والظهر، والعصر، قالوا: والعشاءُ الأخيرةُ هي في آية أخرى: في زلف الليل، وقد تقدم بيانُ هذا مُسْتَوْفَى في مَحَاله.
وقوله تعالى: {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت...} الآية، تقدم بيانُها. ثم بعد هذه الأَمثِلَةِ القاضيةِ بتجويز بعث الأجساد عقلاً؛ ساق الخبر سبحانه بأن كذلك خروجَنا من قبورِنا، و{تَنتَشِرُونَ} معناه: تتصرفون وتتفرقون، والمودة والرحمة: هما على بابهما المشهور من التواد والتراهم؛ هذا هو البليغ. وقيل: غيرُ هذا.
وقرأ الجمهور: {للعالَمين} بفتح اللام يعني: جميع العالم. وقرأ حفصٌ عن عاصم بكسرها على معنى: أَنَّ أهلَ الانتفاع بالنظر فيها إنما هم أهل العلم، وباقي الآية اطْلبه في مَحَالِّه؛ تجده إن شاء اللّه مبيناً، وهذا شأننا إلاحالة في هذا المختصر؛ على ما تقدم بيانه، فاعلمه راشداً.
* ت *: وهذه الآياتُ والعبر إنما يعظمُ موقعُها في قلوب العارفين باللَّه سبحانه، ومن أكثرَ التفكُّرَ في عجائب صنع اللّه تعالى حَصَلَتْ له المعرفةُ باللّه سبحانه.
قال الغَزَالِيُّ في الإحياء: وبحر المعرفة لا ساحل له؛ والإحاطة بكنه جلال اللّه محالٌ، وكلما كثرت المعرفةُ باللّه تعالى وصفاتِه. وأَفعاله وأسرار مملكته وقويت كثر النعيم في الآخرة؛ وعظم، كما أنه كلما كثر البذر وحسن كثر الزرع وحسن.
وقال أيضاً في كتاب شرح عجائب القلب من الإحياء: وتكون سَعَةُ ملك العبد في الجنة؛ بحسب سِعَة معرفتِه باللّه، وبحسب ما يتجلى له من عظمة اللّه سبحانه، وصفاتِه، وأفعاله، انتهى.
وقوله تعالى: {أَن تَقُومَ السماء والأرض} معناه: تثبت كقوله تعالى: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ} [البقرة: 20].
وهذا كثير، والدعوة من الأرض: هي البعث ليوم القيامة، قال مكي: والأحسن عند أهل النظر أنَّ الوقفَ في هذه الآية يكونُ في آخرها، {تَخْرُجُونَ}؛ لأن مذهب سيبويهِ والخليلِ في إذا الثانية: أنها جوابُ الأولى، كأنه قال: ثم إذا دعاكم خرجتم؛ وهذا أسدُّ الأقوال.
وقال * ص *: {إِذَا أَنتُمْ}، {إذا}: للمفاجأة، وهل هي ظرفُ مكانٍ أو ظرفَ زمان؟ خلاف، و{مِنَ الأرض} علَّقهُ الحُوفِيُّ ب دَعَا، وأجاز * ع *: أن يتعلقَ ب دعوة انتهى.
وقرأ حمزة والكسائي: {تَخْرُجُونَ} بفتح التاء، والباقون بضمها، والقنوت هنا بمعنى الخضوعِ، والانقيادِ في طاعتهِ سبحانه. وإعادة الخلق: هو بعثُهم من القبور.
وقوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} قال ابن عباس وغيره: المعنى: وهو هين عليه، وفي مصحف ابن مسعود {وهو هين عليه}، وفي بعض المصاحف {وكل هين عليه}.
وقال ابن عباس أيضاً وغيره: المعنى: وهو أيسر عليه، قال: ولكن هذا التفضيل إنَّما هو بحسْب معتقدِ البَشَرِ؛ وما يعطيهم النظر في الشاهد من أن الإعَادَةِ في كثير من الأشياء أهون علينا من البدأة. ولما جاء بلفظٍ فيه استعارة، وتشبيه بما يعهده الناس من أنفسهم خَلُصَ جانبُ العظمة؛ بأن جعل له المثلَ الأعْلَى الذي لا يلحقه تكييف؛ ولا تماثل مع شيء. ثم بين تعالى أمر الأصنام وفسادَ معتقدِ مَن يُشْرِكُها باللّه بضربه هذا المثلَ؛ وهو قوله: {ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ...} الآية، ومعناه: أَنكم أيها الناس إذا كان لكم عبيدٌ تَمْلِكُونَهم؛ فإنكم لا تشركونهم في أموالكم، ومُهِمِّ أموركم، ولا في شيء على جهة استواءَ المنزلة. وليس من شأنكم أن تخافوهم في أن يرثوا أموالكم، أو يقاسموكم إياها في حياتكم، كما يفعل بعضكم ببعض؛ فإذا كان هذا فيكم، فكيف تقولون: أن من عبيده وملكه شركاءُ في سلطانِه وألوهيته؛ هذا تفسير ابن عباس والجماعة.